الدروس المستفادة من حادث تحويل القبلة للشيخ عبد الناصر بليح
لتحميل الخطبة بصيغة wordإضغط هنا
“الدروس المستفادة من حادث تحويل القبلة”
الحمد لله الذلي نور بهدايته قلوب العارفين ، وأقام على الصراط المستقيم أقدام السالكين. الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد ” إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد” .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد وسلم تسليماً كثيراً . قال وما ينطق عن الهوي:” يطلع الله تبارك و تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ” .(ابن ماجة ).
أما بعد فيا جماعة الإسلام قال تعالي:”سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ” (البقرة/ 142).
أخوة الإيمان :” لقد صلي رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً تجاه بيت المقدس بوحي من الله تعالي لحكم كثيرة منها:”
تأليف قلوب أهل الكتاب للإسلام .. ولما رأي أنه لا فائدة من ذلك فأخذ يقلب وجهه في السماء كي يحول الله عز وجل وجهه إلي القبلة دون أن يطلب من الله صراحة .. وذات يوم وهو يصلي العصر في مسجد بني سلمة نزل عليه أمين الوحي جبريل بقرآن يتلي إلي يوم القيامة ” قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ” .
أخوة الإيمان والإسلام :
ونحن في شهر تحويل القبلة وإذا أردنا أن ننتقي بعض الدروس من حادث تحويل القبلة اليوم وهي دروس عظيمة وكثيرة لا تحصي .. فنأخذ أولاً :
** درس مداراة السفهاء وعدم الاهتمام بهم :
فالسفهاء هم السفهاء في كل عصر وحين وكل وقت وأوان .. ولم ولن يخلو عصر منهم والسفيه هو السفيه الذي إذا نطق لا يدري ما يقول ولا يعقل ما يتحدث به وهو الرجل التافه كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في شأنه :” سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة قيل: و ما الرويبضة؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.” (أحمد وابن ماجه والحاكم ).
وفي الحديث السابق نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرن زمن ظهور الرويبضة (السفيه) بانهيار النظام الأخلاقي، حيث يؤتمن الخائن ويُخوّن الأمين ويُكذب الصادق، ويُصدق الكاذب، ثم يظهر هذا السفيه ليتكلم في أمور العامة، وهو أجهل من حمار أهله.
قال ابن منظور: “السفه والسفاه والسفاهة خفة الحلم وقيل نقيض الحلم وأصله الخفة والحركة وقيل الجهل وهو قريب بعضه من بعض وقد سفه حلمه ورأيه ونفسه سفها وسفاها وسفاهة حمله على السفه“..
ووردت في القرآن بهذا المعنى لما قال المولى عز وجل واصفا اليهود وقيل المشركين وقيل المنافقين” سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا..”.
ولما وقع حادث تحويل القبلة حصل لبعض الناس -من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود -ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: ” مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ” أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: ” قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ” أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثمَّ وجه الله، و ” لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ “( البقرة / 177). أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه، حيثما وجَّهَنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه -وأمتِه عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم، خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل، عليه السلام، ولهذا قال: ” قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ “.
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في أهل الكتاب -:”إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين” (أحمد).
ماذا تفعل مع السفهاء ؟
فإذا ما ضاق صدرك من تلاحي السفيه، وتجرأ عليك تصريحاً أو تُقية أو تلميحاً، فلا تكترث، فإن تركك له غائضة، فلن يحقق مأربه في التسلق على كتفك، ولن يصل لمبتغاه من الشموخ بذلة الإثم، وليبوء بإثمه وإثمك فيكون من النادمين، وتذكر قول القائل :”
وإذا أمن الجهال جهلك مرةً – فعرضك للجهال غنم من الغنم
وان أنت نازيت السفيه إذا نزا – فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
ولا تتعرضن للسفيه و داره – بمنزلة بين العداوة و السلم
فيخشاك تاراتِ و يرجوك مرة – و تأخذ فيما بين ذلك بالحزم
وعزاؤنا أن السكوت عن السفيه فلاح وأن الرد على السفيه سفه:
قالوا سكتّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم – :” إن الجوابَ لباب الشر مفتاحُ
والصمتُ عن جاهلٍ او أحمقٍ شرفٌ – وفيه أيضا لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الأسْدَ تُخشى وهي صامتةٌ – والكلبُ يخسى لعمري وهو نبّاحُ
ويبقى من عادة الرجل العاقل تجنب ورود مورد يرده السفهاء ولسان حاله يقول:
سأترك ماءكم من غير ورد – وذاك لكثرة الوراد فيه
إذا سقط الذباب على طعام – رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء – إذا كان الكـلاب ولغن فيه
ويرتجع الكريم خميص بطن – ولا يرضى مساهمة السفيه
وإياك أن تظن أن سكوتك عن السفيه فشل، بل هو قمة النجاح، ولينتبه السفيه أن سكوت الحليم عنه منقصة لا مفخرة، ولكن شدة السفه جعلته يستشعر سكوت الكرام عنه منقبة فيه، وأن سكوت الحليم عن الرد ليس بعجز، فإذا ما تحداك السفيه بنهيقه فلا تضاهيه كيلا تكون مثله، وتذكر أيها الحليم أن ردك على السفيه إشباع لرغبات نفسية لديه:
إذا نطق السفيه فلا تجبه – فخير من إجابته السكوت
فإن كلمتـــه فرجت عنه – وإن تركـــته كمداً يموت
حب الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم البعض ضمن لهم الإيمان الكامل :
ومن دروس حادث تحويل القبلة نأخذ كيف أحب الصحابة بعضهم البعض ونزعت الكراهية من صدورهم حتي امتدحهم المولي عز وجل بقوله “: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ..”(الفتح /29). ولما تحولت القبلة خشي الصحابة علي من مات وهو يصلي تجاه بيت المقدس فسألوا عن ذلك كما روي البخاري:.. عن البراء، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستَّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم. فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة، فدارُوا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل :” وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ” (تفسير ابن كثير).
وعن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله: ” قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ”فقال رجال من المسلمين: وَددْنا لو عَلمْنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ” . ونحن بحاجة إلى إيمان قوي, ولعل هذه الصلاة -إن شاء الله-, وهذا القرآن الذي يتلى علينا, لعله يشحذ هممنا, ويدفعنا إلى عمل مخلص, عمل هادف, عمل منضبط بالشرع.
“وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ” ما معني هذا القول ؟
أولاً: ما كان الله ليضيع, هذا أبلغ نفي في اللغة العربية، هذا نفي الشأن -أي بالتعبير الدارج-: مستحيل وألف ألف مستحيل أن تفعل شيئاً يقتضيه إيمانك, ولا تنال عليه مكافأة كبيرة.
الجنة لها ثمن : أحياناً إيمانك يمنعك أن تأكل مالاً حراماً فيبقى دخلك محدوداً، بينما الذي لا يهتم للحلال و الحرام يأتيه دخل فلكي، أنت ماذا فعلت بإيمانك؟
ضيعت دخلاً كبيراً لأنك مؤمن، هناك أشخاص لا يتقيدون بشيء، يستمتعون، يأكلون ما يشتهون، يلتقون مع من يحبون، لا يوجد عندهم رادع, ولا قيمة, ولا مبدأ, ولا شيء، هؤلاء يبدو أنهم مستمتعون بالحياة، هم يعيشون كما يحبون، المؤمن مقيد، هذه حلال، هذه فيها شبهة، هذه لا تجوز، هذا الدخل مشبوه، العمل مع فلان فيه تعامل ربوي.
فالمؤمن مستحيل أن يربح الدنيا والأخرة .يقول صلي الله عليه وسلم :” إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله -عز وجل– يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب”(أحمد).
من أحب آخرته أضر بدنياه، ومن أضر بدنياه أحب آخرته.
أي يوجد ثمن، فالشخص لا يتوهم أبداً أنه ممكن أن أستمتع بالدنيا كما يستمتع عامة الناس, وأصل إلى الجنة في أعلى مرتبة، لا، الجنة لها ثمن، ولا بد من أن تدفع الثمن، فهذا الذي تدفعه أيها الأخ الكريم, اعتقد اعتقاداً جازماً أنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن تخسر، مستحيل أن تطيعه وتخسر, وأن تعصيه وتربح. العبرة الإيمان.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، إلا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”(الترمذي). ويقول صلي الله عليه وسلم :”حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات“(مسلم).
خطورة ترويج الشائعات :
أخوة الإيمان والإسلام :
درس أخر من دروس حادث تحويل القبلة وهو الكف عن ترديد الكلام والشائعات وعندما تجد شائعة لا تروج لها بالقول أو الفعل بل انسب الأمر لله عز وجل حيث جاء الجواب من الله عز وجل :” قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم ”
إن المسلم منهي عن ترويج الأخبار الدنيوية فضلا عن الدينية دون تثبت، ومن ينظر نظرة ثاقبة في سر نهي الإسلام عن ترويج الإشاعات يجد الكثير من الأسباب، فقد تروّج شائعة تتسبب في هزيمة جيش، أو قيام حرب، أو قتل نفس، أو إفساد في الأرض، أو إقامة بدعة لا أصل لها أو هدم سنة ثابتة في الشرع، أو صرف المسلمين عن قضية من قضاياهم المصيرية. وقد يكون مصدر الإشاعة غير المسلمين وكتبت بما يوحي الحرص على الإسلام، فينخدع بها المسلمين ليكونوا جنودا في ترويجها.وكم قرأنا في التاريخ عن ما يسمي بالحرب الإعلامية النفسية، وكيف تستخدم فيها خبرات خاصة لترويج الشائعات وبث الذعر والخوف في نفوس العدو.
ونهي الإسلام عن الشائعات لخطورتها علي المجتمع الإنساني ككل ولما لها من أثر بالغ علي الأمن والاستقرار في المجتمع لذلك وقف القرآن الكريم لهؤلاء الذين يروجون الشائعات بالمرصاد ووصفهم بأنهم أفاكين كذابين يغيرون وجه الحقيقة.
قال تعالي:”ِإنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ . لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ “(النور/12.11 ).
أخوة الإيمان والإسلام : ومن دروس تحويل القبلة :
وسطيـــة الإســلام:
قال تعالي:” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ “(البقرة/143).
أخوة الإيمان:
الإسلام دين الوسطية الذي يعتنقه يعرف أنه يعتنق أكمل الأديان ..وأن مبادئه وأحكامه ومثله ومقاييسه هي المبادئ السليمة الكفيلة بإسعاد الفرد والمجتمع ,وأن ماجاء به الإسلام هو برنامج عملي إصلاحي للبشرية كافة,وأنه ينظر إلى مخالفيه نظرة قوامها التسامح والبر ,وليس كما يصوره البعض ديناً هجومياً اغتيالياً أو هادماً مدمراً.
فهو دين الوسط ومعني الوسط: هو اسم لما بين طرفي الشيء ,وأن “أوسط الشيء”أفضله وخياره ,كوسط المرعي فانه خير من طرفيه ,وكوسط الدابة للركوب فانه خير من طرفيها لتمكن الراكب ,ومنه الحديث “خيار الأمور أوسطها”وواسطة القلادة هي الدرة التي في وسطها ,وهي أنفس خرزها ,ويقال :فلان من أوسط قومه أي خيارهم, وفلان وسيط قومه أو وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبا وأرفعهم مجدا – “فالوسط هو المتوسط بين الغالي والتالي ..
ويقول القرطبي في تفسير قوله تعالى : ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ” المعنى : وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم والوسط : العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها وروى الترمذي عن أبي سعيد بن الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:”وكذلك جعلناكم أمة وسطا”قال : عدلاً.قال : هذا حديث حسن صحيح وفي التنزيل:”قال أوسطهم”.
ففي الحديث عن بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:غداة العقبة وهو على ناقته القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا ثم قال :”يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ” ( ابن ماجه ).
كما تحث السنة النبوية علي الرفق :فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير”( الترمذي ).
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا “(الطبراني ورواته ثقات).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله “(البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم :” إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه” وعن عائشة أيضا رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه “( مسلم).
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين ..أما بعد فيا جماعة الإسلام ..
وقد مدح الله تعالي التوسط في مواضع كثيرة من كتابه ,مثل قوله تعالي:”وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا”(الإسراء/29). وقوله :”وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا”(الفرقان/67) .وان من ذلك وصفه لأمة القرآن بأنها أمة وسط ,وذم التطرف والخروج عن الجادة ,وصور غير المتمكن من دينه بصورة من هو علي حرف اذ يقول :” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْر ٌاطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِر َالدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ “(الحج/11)أي علي غير تمكن فهو علي طرف من دينه غير متمكن منه ,كما صور التمكن المستقيم بصورة من هو علي صراط مستقيم سوي لاعوج فيه ولا أمت ,ووصف دينه وشريعته بين غيرها بأنها هي الصراط السوي آذ يقول :”وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”(الأنعام/153) بل وصف نفسه هو سبحانه وتعالي بأنه علي صراط مستقيم فقال تعالي :”إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(هود/ 56).
الغلو وأثره السيئ في الدين:
الغلو في اللغة:غلواً وغلاءً:زاد وارتفع وفلان جاوز الحد فهو غال . وفي الأمر والدين:تشدد فيه وجاوز الحد وأفرط فهو غال .قال تعالي :”لا تغلوا في دينكم “(المائدة/77)(المعجم الوجيز ط التربية والتعليم 2000م /454)وجاوز الحد وأفرط فهو غال وفي القرآن الكريم “لا تغلو في دينكم ولا تقولوا علي الله إلا الحق..”(النساء /171) وفي الحديث :”إياكم والغلو ” أي التشدد فيه ومجاوزة الحد(لسان العرب5/132).
والغلو في الشرع:موافقة للمعني اللغوي وهو مجاوزة حدود الشريعة اعتقاداً وعملاً.
القرآن الكريم يحذر من الغلو وخطره:
وقد وردت بعض النصوص القرآنية تحذر من الغلو في الدين وتبين خطورته علي المجتمع كله حيث يقول تعالي :”يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق “(النساء/171). وقال تعالي :” قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ” (المائدة/77). قال القرطبي :قوله تعالى : ” يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ” نهي عن الغلو والغلو التجاوز في الحد ..ويعنى بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم وغلوا النصارى فيه حتى جعلوه ربا فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر .. وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد***كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال الآخر :
عليك بأوساط الأمور فإنها *** نجاة لوا تركب ذ لولاً ولا صعباً
وقال ابن القيم رحمه الله تعالي :”فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه ,وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين وقد جعل الله هذه الأمة وسطا ,وهي الخيار العدول ,لتوسطها بين الطرفين المذمومين,والعدل هوا لوسط بين طرفي الجور والتفريط ,والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف ,والأوساط محمية بأطرافها , فخيار الأمور أوساطها”.(إغاثة اللهفان(1/201)
تكريم الله عز وجل لنبيه صلي الله عليه وسلم : أخوة الإيمان والإسلام :
ونستخلص أيضاً من حادث تحويل القبلة أن الله كرم نبيه صلي عليه وسلم وجعل رضاه من رضاه .. فكما كرم الله عزوجل نبيه صلي الله عليه وسلم كأن جعل طاعته من طاعته ومحبته من محبته ووجوب توقيره والتأسي به والصلاة والتسليم عليه ..الخ هذا التكريم الذي لا ينتهي فقد جعل رضاه من رضاه .
وهو مظهر من مظاهر تكريمه صلي الله عليه وسلم أن جعل الله عزوجل رضاه صلي الله عليه وسلم من رضاه فقال تعالي :”يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ”(التوبة/62).
يحلفون بالله لكم الخطاب للمؤمنين خاصة وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا .. ليرضوكم بذلك .. والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم .. وبأن رضاه صلى الله عليه وسلم مندرج تحت رضاه سبحانه وإرضاؤه صلى الله عليه وسلم إرضاء له تعالى لقوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله..(تفسير أبي السعود ج4 ص 78).
وفي حادث تحويل القبلة يقول الله عز وجل :”قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ”(البقرة/144). ومن الملاحظ هنا أن الله عزوجل يقول ” فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا “أي ترضاها أنت يامحمد ولو قال المولي عزوجل :”أرضاها”لكان عين المني ولكن رضاء الله عزوجل وافق رضي رسولنا صلي الله عليه وسلم فقال :” قِبْلَةً تَرْضَاهَا” ويقول الله عزوجل :” وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى”(الضحي).فقوله :”ولسوف يعطيك ربك فترضى “أعطاه الله جل ثناؤه ألف قصر في الجنة ترابها المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم وعنه قال : رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار وقاله السدي وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين وعن علي رضي الله عنه قال :” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي : رضيت يا محمد ؟ فأقول يارب رضيت”وفي ووفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص :”أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم:”فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم”(إبراهيم /36). وقول عيسى:”إن تعذبهم فإنهم عبادك”(المائدة : 118) فرفع يديه وقال:”اللهم أمتي أمتي”وبكى فقال الله تعالى لجبريل:”إذهب إلى محمد – فقل له : إن الله يقول لك :” إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك”وقال علي رضي الله عنه لأهل العراق :” إنكم تقولون إن أرجي آية في كتاب الله تعالى:”قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله”(الزمر).قالوا : إنا نقول ذلك قال : ولكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى:” ولسوف يعطيك ربك فترضى”وفي الحديث :”لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذاً والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار“( القرطبي ج 20ص86).
أخوة الإيمان والإسلام :”
و ليلة النصف من شعبان الليلة القادمة وهي ليلة لها فضائل جمة وعظيمة و قد ورد في فضلها عدة أحاديث، منها ما هو صالح للاحتجاج، ومنها ما هو ضعيف لا يحتج به . فمما هو صالح للاحتجاج ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه” (البيهقي والطبراني). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن”( ابن ماجه، وابن حبان ).
هذا، وقد قال عطاء بن يسار: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان، يتنزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيغفر لعباده كلهم، إلا لمشرك أو مشاجر أو قاطع رحم.
فينبغي على العبد أن يتحلى بالطاعات التي تؤهله لمغفرة الرحمن، وأن يبتعد عن المعاصي والذنوب التي تحجبه عن هذه المغفرة. ومن هذه الذنوب: الشرك بالله، فإنه مانع من كل خير. ومنها الشحناء والحقد على المسلمين، وهو يمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا”. رواه مسلم. فأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها.
وقال الشافعي رحمه الله: بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب ونصف شعبان. وأما صيام يوم النصف من شعبان فيسن على أنه من الأيام البيض الثلاثة، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، لا على أنه يوم النصف من شعبان، فإن حديث الصيام فيه لا يصلح للاحتجاج..
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من معاقبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أحين علي نفسك “
جزاك الله عنا خيرا